Saturday, October 13, 2012

كانت أم المستنصر لما هلك أبو سعيد أحضرت أخاه وأمرته بخدمتها، فامتنع خوفا من الوزير والأتراك



روى المقريزى قال

اتفق أن حضر قاضي القضاة ذات يوم بباب البحر من القصر، على عادته في كل يوم اثنين، لتقبيل الأرض والسلام أو خروج السلام عليه، ويجلس معه من الشهود من جرى رسمه بذلك. فلما جلس بباب البحر وخليفتاه القضاعي وابن أبي زكرى والشهود دخل أبو محمد اليازوري وجلس معهم؛ فقال له قاضي القضاة: بأمر من جلست ههنا ! أتظن أن المجالس كلها مبذولة لكل أحد أن يجلس فيها ؟ هذا مجلس لا يجلس فيه إلا من أذنت له حضرة الإمامة وشرفته به؛ اخرج، فوالله لا تضرفت على أيامي أبدا. فخرج ورجلاه لا تكادان تحملانه، فوقف بباب البحر إلى أن خرج قاضي القضاة، فسار وخليفتاه والشهود معه، فسار في أعقابهم، وسبقهم ووقف بباب دار القاضي؛ فلما نزل صنع له استعطافا، فلم يعره طرفه وانصرف. فلقيه القضاعي وقال: يا أبا محمد، كان يجب ألا تريه وجهك عقب ما جرى لك معه. وفارقه. فلقيه ابن زكرى وخطابه بجفاء. 

فرد إلى داره مغموماً، فوجد ثلاثين حملاً من تفاح قد وصلت إليه من ضياعه لتباع بمصر، فأنفذ منها خمسة أحمال إلى الوزير، ولقاضي القضاة خمسة أحمال، وللقائد الأجل عدة الدولة رفق خمسة أحمال، ولمعز الدولة معضاد خمسة أحمال، ولابن أبي زكريا ثلاثة أحمال، وللقضاعي خمسة أحمال، وفرق حملين على حراسهم. فلم يلتفت أحد منهم إليه، ولا عطف عليه، ما خلا القائد الأجل عدة الدولة رفق فإنه شكره وأثنى عليه. وهو مع ذلك يقف بباب البحر، فإذا أقبل عدة الدولة رفق يريد القصر تلقاه وسلم عليه، فيكرمه ويسأل عن حاله، ثم يدخل إلى القصر؛ فإذا خرج وجده واقفاً على حاله فيسلم عليه ويتبعه إلى داره؛ فإذا دخل انصرف عنه. فأقام على ذلك أياما، فخف على قلبه ورغب في اصطناعه؛ فصار إذا وصل إلى داره أمره بالنزول معه، فينزل، ويتحدثان وكان حلو الحديث فيطيل عنده، ثم ينصرف. فصار يشتاقه إذا غاب، ويمسكه إذا أراد الانصراف حتى تحضر المائدة.

وكانت أم المستنصر لما هلك أبو سعيد توقفت أمور خدمتها، فأحضرت أخاه وأمرته بخدمتها، فامتنع خوفا من الوزير والأتراك؛ واستمرت ثلاثة أشهر تسأله وهو يمتنع. فحضر أبو محمد اليازوري يوماً، فجلس عدة الدولة رفق، وجرى بينهما امتناع أبي نصر، أخي أبي سعيد، من خدمة أم المستنصر، فقال له رفق: أرى أن تكتب رقعة تلتمس خدمتها وتعرض نفسك عليها. فقال أبو محمد: قد كنت أظن جميل رأيك فيّ وإيثارك مصلحة حالي، وأكذبني ظني. فقال: بماذا ؟ فقال: الهزء بي، فإني قد أجهدت في العود إلى قرية كنت فيها فبخل علي بها. فكيف أتعرض لهذا الأمر الكبير ومناوأة الوزراء ! فقال له: أما ترضاني سفيراً لك في هذا الأمر، وعلي استفراغ الوسع فيه، لوجوب حقك علي، فإن قضت الأقدار ببلوغ الغرض في ذلك فقد أدركنا ما نؤثره، وإن تكن الأخرى فقد أكثر من العطلة ما تحصل. فأجاب إلى ذلك، وكتب إلى السيدة رقعة يعرض نفسه وماله عليها، ويخطب خدمتها، ويبذل الاجتهاد فيها؛ وأخذها منه رفق.

فلما كان من الغد ركب إلى القصر، ودخل إلى السيدة وقد أحضر أبو نصر، وعاودته الخطاب في خدمتها وهو يمتنع؛ حتى أضجرها؛ فانتهز عز الدولة رفق الفرصة بضجرها وقال: يا مولاتنا، قط طال غلق بابك ووقف خدمتك في امتناع الشيخ أبي نصر مما نريده منه؛ وههنا من أنت تعرفينه، وهو رجل مسلم وقاض، وكبير المروءة، وهو مستغن بماله وأملاكه عن التعرض لما لك، وهو ثقة ناهض كاف فقالت: من هو ؟ فقال القاضي أبو محمد اليازوري، وهذه رقعته. فأمرته بتسليمها إلى أبي نصر، وقالت: ما تقول فيه ؟ فلم يصدق بذلك. فقال يا مولاتنا، هو والله الثقة الأمين الناهض الذي يصلح لخدمتك، وفيه لها جمال، وما تظفرين بمثله. فوقع ذاك منها بالموافقة. فقال لرفق: قل له يجلس في داره غداً حتى أنفذ إليه؛ فسر بذلك وخرج، فإذا أبو محمد في انتظاره على عادته، فسار، ولحق به أبو محمد، فقال له: أقمح أم شعير ؟ فقال: بل بر يوسفي، وقص عليه الخبر. فلما كان الغد جاء الرسول مستدعياً له، فركب إلى بابها، فأحضرته وأدخلته وراء المقطع وردت إليه أمر بابها والنظر في ديوانها، الذي هو باب الريح، وجميع أحوالها؛ ونزل. فبلغ ذلك الوزير، فكبر عليه وأقلقه أن تم على غير يده، وأنه لا يقبل قوله عند السيدة لما في نفسها منه لقتل أبي سعيد.

وأقبل الأمراء الأتراك إلى القاضي أبي محمد، فهنئوه بما صار إليه؛ فقام إليهم وتلقاهم، وأعظم سعيهم إليه وشكرهم، وقال: ما أنا إلا خادم ونائب لموالي الأمر، أسأل في تشريفي بما يعين لهم من خدمة لأنهض فيها. ثم لما قاموا نهض قائما لوداعهم. وأخذ الوزير الفلاحي في العمل عليه، فلم يمض إلا أيام حتى قبض عليه وقتل.

المصدر: اتعاظ الحنفاء للمقريزى 


No comments:

Post a Comment