من أعلام المؤرخين العرب : ابن جرير الطبرى
بدأ الطبري طلب العلم بعد سنة 240هـ وأكثر الترحال ولقي نبلاء الرجال، قرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد ثم ارتحل منها إلى دمشق والمدينة المنورة ثم الري وخراسان، تفقه الطبري على الشافعي حتى أصبح من كبار الشافعية، ثم أصبح مجتهدًا مطلقًا فانفرد بمذهب مستقل لم يكتب له الدوام، وذلك لذهاب مدوناته، وتفرق أصحابه وأتباعه
الترحال مشقة شديدة قد يتعرض صاحبه للجوع والبرد وكافة أنواع المشقة
رحل ابن جرير من آمُل لما ترعرع وحفظ القرآن ، وسمح له أبوه في أسفاره ، وكان طول حياته يمده بالشيء بعد الشيء إلى البلدان ، فيقتات به ، ويقول فيما سمع عنه : أبطأت عني نفقة والدي ، واضطررت إلى أن فتقت كمي قميصي فبعتهما.
يقول أبو العباس البكري : جمعت الرحلة بين ابن جرير ، وابن خزيمة ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن هارون الروياني بمصر ، فأرملوا ولم يبقَ عندهم ما يقوتهم ، وأضر بهم الجوع ، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه ، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة ، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام ، فخرجت القرعة على ابن خزيمة ، فقال لأصحابه : أمهلوني حتى أصلي صلاة الخيرة. قال : فاندفع في الصلاة ، فإذا هم بالشموع وخَصِي من قبل والي مصر يدق الباب ، ففتحوا ، فقال : أيكم محمد بن نصر ؟ فقيل : هو ذا. فأخرج صرة فيها خمسون دينارا ، فدفعها إليه ، ثم قال : وأيكم محمد بن جرير ؟ فأعطاه خمسين دينارا ، وكذلك للروياني ، وابن خزيمة ، ثم قال : إن الأمير كان قائلا بالأمس ، فرأى في المنام أن المحامد جياع قد طووا كشحهم ، فأنفذ إليكم هذه الصُّرَر ، وأقسم عليكم : إذا نفدت ، فابعثوا إليّ أحدكم .
وقال أبو محمد الفرغاني في " ذيل تاريخه " على تاريخ الطبري ، قال : حدثني أبو علي هارون بن عبد العزيز ; أن أبا جعفر لما دخل بغداد ، وكانت معه بضاعة يتقوت منها ، فسرقت فأفضى به الحال إلى بيع ثيابه وكمي قميصه ، فقال له بعض أصدقائه : تنشط لتأديب بعض ولد الوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان ؟ قال : نعم. فمضى الرجل ، فأحكم له أمره ، وعاد فأوصله إلى الوزير بعد أن أعاره ما يلبسه ، فقربه الوزير ورفع مجلسه ، وأجرى عليه عشرة دنانير في الشهر ، فاشترط عليه أوقات طلبه للعلم والصلوات والراحة ، وسأل إسلافَه رزق شهر ، ففعل ، وأدخل في حجرة التأديب ، وخرج إليه الصبي -وهو أبو يحيى- ، فلما كتبه أخذ الخادم اللوح ، ودخلوا مستبشرين ، فلم تبق جارية إلا أهدت إليه صينية فيها دراهم ودنانير ، فرد الجميع وقال : قد شورطت على شيء ، فلا آخذ سواه. فدرى الوزير ذلك ، فأدخلته إليه وسأله ، فقال : هؤلاء عبيد وهم لا يملكون. فعظم ذلك في نفسه.
ومما يدل على ذكائه وحفظه أنه قال : لما دخلت مصر لم يبق أحد من أهل العلم إلا لقيني وامتحنني في العلم الذي يتحقق به ، فجاءني يوماً رجل ، فسألنى عن شيء من العروض ، ولم أكن نشطت له قبل ذلك ، فقلت له : علّي قول أن لا أتكلم في شيء من العروض ، فإذا كان في غد فصر إلي ، وطلبت من صديق لي كتاب "العروض" للخليل بن أحمد ، فجاء به ، فنظرت فيه ليلتي ، فأمسيت غير عروضي وأصبحت عروضياً.
وقال الخطيب محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب : كان أحد أئمة العلماء ، يُحكم بقوله ، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، فكان حافظا لكتاب الله ، عارفا بالقراءات ، بصيرا بالمعاني ، فقيها في أحكام القرآن ، عالما بالسنن وطرقها ، صحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ، عارفا بأيام الناس وأخبارهم ، وله الكتاب المشهور في " أخبار الأمم وتاريخهم " ، وله كتاب : " التفسير " لم يصنف مثله ، وكتاب سماه : " تهذيب الآثار " لم أر سواه في معناه ، لكن لم يتمه ، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء ، وتفرد بمسائل حفظت عنه.
تعرض الطبري لمحنة شديدة في أواخر حياته بسبب التعصب المذهبي، فلقد وقعت ضغائن ومشاحنات بين ابن جرير الطبري ورأس الحنابلة في بغداد أبي بكر بن داود أفضت إلى اضطهاد الحنابلة لابن جرير، وكان المذهب الحنبلي في هذه الفترة هو المسيطر على العراق عامةً وبغدادَ خاصةً، وتعصب العوامّ على ابن جرير ورموه بالتشيّع وغالوا في ذلك. حتى منعوا الناس من الاجتماع به، وخلطوا بينه وبين أحد علماء الشيعة واسمه متشابه مع ابن جرير، وهو «محمد بن جرير بن رستم». ظل ابن جرير محاصرًا في بيته حتى تُوفّي.
فلما قدم – أي الطبري – إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها : نعصب عليه أبو عبدالله الجصاص , وجعفر بن عرفة , والبياضي , وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة وعن حديث الجلوس على العرش , فقال أبو جعفر : أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافه , فقالوا له : فقد ذكره العلماء في الاختلاف , فقال : ما رأيته رُوي عنه ولا رأيت له أصحاباً يُعول عليهم , وأما حديث الجلوس على العرش فمحال , ثم أنشد :
سبحان من ليس له أنيس *** ولا له في عرشه جليس
فلما سمع ذلك الحنابلة منه , وأصحاب الحديث , وثبوا ورموه بمحابرهم , وقيل : كانت أُلوفاً , فقام أبوجعفر بنفسه ودخل داره فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم , وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة ووقف على بابه يوماً إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه , وكان قد كتب على بابه :
سبحان من ليس له أنيس *** ولا له في عرشه جليس
فأمر نازوك بمحو ذلك وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث
لأحمد منزل لا شك عامل *** إذا وافى إلى الرحمن واد
فَيُدنيهِ ويُقْعِدهُ كرسماً *** على رغم لهم في أنف حاسد
فخلا في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم , وذكر مذهبه , واعتقاده , وجرح من ظن فيه غير ذلك , وقرأ الكتاب عليهم , وفيه فضل أحمد بن حنبل , وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده , ولم يزل في ذكره إلى أن مات ولم يخرج كنابه في الاختلاف حتى مات , فوجدوه مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه , أعني " اختلاف الفقهاء "
قال الحاكم : سمعت حُسَيْنك بن علي يقول : أول ما سألني ابن خزيمة فقال لي : كتبت عن محمد بن جرير الطبري ؟ قلت : لا ، قال : ولم ؟ قلت: لأنه كان لا يظهر ، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه ، قال : بئس ما فعلت ، ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم ، وسمعت من أبي جعفر.
قال الحاكم : وسمعت أبا بكر بن بالويه يقول : قال لي أبو بكر بن خزيمة : بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير ؟ قلت : بلى ، كتبته عنه إملاء ، قال : كله ؟ قلت : نعم . قال : في أي سنة ؟ قلت : من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين ومائتين. قال : فاستعاره مني أبو بكر ، ثم رده بعد سنين ، ثم قال : لقد نظرت فيه من أوله إلى آخره ، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير ، ولقد ظلمته الحنابلة.
لما تقلد الخاقاني الوزارة وجه إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير ، فامتنع من قبوله ، فعرض عليه القضاء فامتنع ، فعرض عليه المظالم فأبى ، فعاتبه أصحابه وقالوا : لك في هذا ثواب ، وتحيي سنة قد درست. وطمعوا في قبوله المظالم ، فباكروه ليركب معهم لقبول ذلك ، فانتهرهم وقال : قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه. قال : فانصرفنا خجلين.
كان ابن جرير يعرف أن الكلمة يلقيها العالم قد يقتل بها أحد الناس فكان يدقق فى اختيار الألفاظ والأقوال قال سهل بن الإمام -صاحب محمد بن جرير- : سمعت محمد بن جرير وهو يكلم ابن صالح الأعلم ، وجرى ذكر علي -رضي الله عنه- ، ثم قال محمد بن جرير : من قال : إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى، أيش هو ؟ قال : مبتدع. فقال ابن جرير إنكارا عليه : مبتدع
مبتدع ! هذا يقتل.
وحضر وقت موته جماعة منهم : أبو بكر بن كامل ، فقيل له قبل خروج روحه : يا أبا جعفر ، أنت الحجة فيما بيننا وبين الله فيما ندين به ، فهل من شيء توصينا به من أمر ديننا ، وبينة لنا نرجو بها السلامة في معادنا ؟ فقال : الذي أدين الله به وأوصيكم هو ما ثبت في كتبي ، فاعملوا به وعليه. وكلاما هذا معناه ، وأكثر من التشهد وذكر الله -عز وجل- ، ومسح يده على وجهه ، وغمض بصره بيده ، وبسطها وقد فارقت روحه الدنيا. وكان مولده سنة أربع عشرين ومائتين
No comments:
Post a Comment