روى المقريزى قال
فلما ورد على ابن حوشب موت الحلواني ورفيقه بالمغرب، قال لأبي عبد الله الشعيي: إن أرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلواني وأبو سفيان، وقد ماتا، وليس لها غيرك، فبادر فإنها موطأة ممهدة لك. فخرج أبو عبد الله إلى مكة، وقد أعطاه ابن حوشب مالاً، فلما قدم سأل عن حجاج كتامة، فأرشد إليهم، واجتمع بهم، ولم يعرفهم قصده، وذلك أنه جلس قريبا منهم، فسمعهم يتحدثون بفضائل آل البيت، فاستحسن ذلك، وحدثهم في معناه، فلما أراد القيام سألوه أن يأذن لهم في زيارته، فأذن لهم، وسألوه أين مقصده ؟ فقال: مصر، ففرحوا بصحبته، فرحلوا، وهو لا يخبرهم بغرضه، وأظهر العبادة والزهد، فازدادوا فيه رغبة، وخدموه وكان يسألهم عن بلادهم وأحوالهم وقبائلهم، وعن طاعتهم لسلطان إفريقية؛ فقالوا: ماله علينا طاعة، وبيننا وبينه عشرة أيام.
قال: أتحملون السلاح ؟ قالوا: هو شغلنا ولم يزل يتعرف أحوالهم حتى وصلوا إلى مصر، فلما أراد وداعهم قالوا له: أي شيء تطلب بمصر ؟ قال: أطلب التعليم بها قالوا: إذا كنت تقصد هذا، فبلادنا أنفع لك، ونحن أعرف بحقك ولم يزالوا به حتى أجابهم إلى المسير معهم. فلما قاربوا بلادهم رجال من الشيعة فأخبروهم بخبره، فرغبوا في نزوله عندهم، وأقرعوا فيمن يضيفه منهم.
ثم ارتحلوا حتى وصلوا إلى أرض كتامة منتصف ربيع الأول سنة ثمان وثمانين ومائتين، فسأله قوم أن ينزل عندهم حتى يقاتلوا دونه، فقال لهم: أين يكون فج الأخيار ؟ فعجبوا من ذلك، ولم يكونوا ذكروه له، فقالوا له: عند بني سليمان.
فقال: إليه نقصد، ثم نأتي كل قوم منكم في ديارهم، ونزورهم في بيوتهم فأرضى بذلك الجميع.
وسار إلى جبل يقال له إيكجان، وفيه فج الأخيار، فقال: هذا فج الأخيار، وما سمى إلا بكم، ولقد جاء في الآثار: للمهدي هجرة تنبو عن الأوطان، ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان، قوم اسمهم مشتق من الكتمان، وبخروجكم في هذا الفج سمى فج الأخيار.
فتسامعت القبائل، وأتاه البرابر من كل مكان، فعظم أمره إلى أن تقاتلت كتامة عليه مع قبائل البربر، وهو لا يذكر في ذلك اسم المهدي، فاجتمع أهل العلم على مناظرته وقتله، فمنعه الكتاميون من المناظرة، وكان اسمه عندهم أبا عبد الله المشرقي.
وبلغ خبره إلى إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية ، فأرسل إلى عامله على مدينة ميلة ليسأله عن أمره، فصغره عنده، وذكر أنه يلبس الخشن، ويأمر بالخير والعبادة، فسكت عنه.
ثم إن أبا عبد الله قال للكتاميين. أنا صاحب البذر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلواني. فازدادت محبتهم له، وتعظيمهم لأمره، فلما ظهر لأهل المغرب علمه وفضله، قال أحد الأولياء لأصحابه: لولا واحدة كان الحلواني يقولها ما تخالجني الشك في أن هذا الرجل هو الذي كان الحلواني يبشر به.
قالوا: وما هي ؟ قال: كان إذا وصفه قال: في فيه إصبع فبلغ ذلك أبا عبد الله فتبسم وقال: هذا لا يكون فلما أخذ العهد بعد ذلك على من سمع هذا القول، واشترط عليهم الكتمان، وضع إصبعه على فيه وقال: هذا هو الإصبع الذي كان يقوله الحلواني، أمركم بالصمت والكتمان، فأما أن يكون في فم رجل إصبع فلا فقالوا كذلك والله هو
وتفرقت البرابر وكتامة بسببه، وأراد بعضهم قتله، فاختفى، ووقع بينهم قتال شديد، واتصل الخبر بالحسن بن هرون من أكابر كتامة فأخذ أبا عبد الله إليه، ودافع عنه، ومضى به إلى مدينة تاصروت، فأتته القبائل من كل مكان، وعظم شأنه، وصارت الرئاسة للحسن بن هرون، وسلم إليه أبو عبد الله أعنة الخيل، وظهر من الاستتار، وشهد الحروب، فكان الظفر له، وغنم الأموال، وخندق على مدينة تاصروت، وقد زحفت إليه قبائل المغرب، فاقتتلوا عدة مرار، كان له فيها الظفر، وصار إليه أموالهم، فاستقام له أمر البربر وعامة كتامة، وزحف إلى مدينة ميلة، وقاتل أهلها قتالا شديدا، وأخذ الأرباض، ثم ملك البلد بأمان، فبعث إليه إبراهيم بن الأغلب ابنه الأحول في إثنى عشر ألفا، وأتبعه بمثلهم، فالتقى مع أبي عبد الله، فانهزم أبو عبد الله، وقتل كثير من أصحابه، وتبعه الأحول، فحال بينهما الثلج، ولحق أبو عبد الله بجبل إيكجان، وملك الأحول مدينة تاصروت، وأحرقها وأحرق مدينة ميلة، فبنى أبو عبد الله دار هجرة بإيكجان، وقصده أصحابه، وعاد الأحول إلى إفريقية، فمات إبراهيم بن الأغلب، وقتل ابنه أبو العباس، وولى زيادة الله بن الأغلب، واشتغل باللهو واللعب، فاشتد سرور أبي عبد الله.
ثم إن أبا مضر زيادة الله قتل الأحول، فانتشرت حينئذ جنود أبي عبد الله في البلاد، وصار يقول: المهدي يخرج في هذه الأيام، ويملك الأرض، فيا طوبى لمن هاجر إلي، وأطاعني.
وأخذ يغري الناس بزيادة الله ويعيبه، وكان أكثر من عند زيادة الله من الوزراء شيعة، فلم يكن يسوءهم ظفر أبي عبد الله، خصوصا وقد كان يذكر لهم من كرامات المهدي، وأنه يحيي الموتى، ويرد الشمس من مغربها، ويملك الأرض بأسرها، وهو مع ذلك يبعث إلى الوزراء، ويعدهم، وبعث أبو عبد الله برجال.
المصدر: اتعاظ الحنفاء للمقريزى
No comments:
Post a Comment